
تُعرّف منظمة الصحة العالمية الصحة النفسية بأنها حالة متكاملة من العافية لا تقتصر فقط على غياب الاضطرابات العقلية بل تمكّن الأفراد من مواجهة ضغوط الحياة المختلفة وتحقيق إمكاناتهم الشخصية والتعلم والعمل بفاعلية والمساهمة في مجتمعاتهم. إنها تشكل حجر الزاوية في قدرة الإنسان على التفكير والشعور والتصرف وتؤثر بعمق في علاقاته وصحته الجسدية اليومية.
تعتبر اضطرابات القلق من أكثر التحديات النفسية شيوعا وتتخذ أشكالا متعددة. يشمل ذلك اضطراب القلق العام الذي يتميز بقلق مفرط يعطل الحياة اليومية وقد تصاحبه أعراض جسدية مثل الأرق والإرهاق وضعف التركيز. وهناك أيضا اضطراب الهلع الذي يتجلى في نوبات رعب مفاجئة وشعور طاغ بالخطر. أما الوسواس القهري فيجمع بين أفكار ملحة متكررة وأفعال قهرية لا يمكن مقاومتها كغسل اليدين باستمرار. كما تندرج أنواع الرهاب المختلفة ضمن هذه الفئة مثل الرهاب الاجتماعي من حكم الآخرين ورهاب الخلاء من الأماكن التي يصعب الهروب منها والخوف غير العقلاني من أشياء محددة. ويظهر اضطراب ما بعد الصدمة لدى الأشخاص الذين تعرضوا لأحداث مهددة للحياة.
تؤثر اضطرابات المزاج بشكل مباشر على الحالة العاطفية للفرد وتتسبب في تقلبات حادة. فالاكتئاب الشديد يتميز بحزن عميق وفقدان مستمر للاهتمام بالأنشطة الممتعة. وعلى النقيض يأتي اضطراب ثنائي القطب الذي يتأرجح فيه الشخص بين فترات من الهوس والطاقة العالية وفترات من الاكتئاب والمزاج المنخفض. وهناك أيضا الاضطراب العاطفي الموسمي المرتبط بتغير الفصول ونقص ضوء النهار وهو أكثر انتشارا في البلدان البعيدة عن خط الاستواء. وفي فئة أخرى تقع اضطرابات الفصام وهي مجموعة من الحالات الذهانية الشديدة التي تبدأ عادة في مرحلة الشباب بين سن السادسة عشرة والثلاثين وتؤدي إلى صعوبة في معالجة المعلومات وأفكار مجزأة. وتشمل أعراضها الأوهام والهلوسة والانسحاب الاجتماعي ونقص الدافع.
لا يوجد شخص محصن ضد الإصابة باضطراب نفسي حيث تتفاعل عوامل متعددة لزيادة هذا الخطر بغض النظر عن العمر أو الجنس أو الدخل. تلعب الظروف الاجتماعية والاقتصادية دورا كبيرا فالفقر والقيود المالية والانتماء لمجموعات مهمشة تزيد من احتمالية الإصابة. كما أن تجارب الطفولة القاسية مثل سوء المعاملة أو فقدان أحد الوالدين تترك آثارا عميقة على الصحة العقلية والجسدية للطفل. وهناك أيضا عوامل بيولوجية ووراثية فقد يزيد التاريخ العائلي من قابلية الإصابة ببعض الحالات. فضلا عن ذلك يمكن للأمراض الجسدية الكامنة مثل السرطان والسكري والألم المزمن أن تكون سببا في تطور حالات مثل الاكتئاب والقلق.
لا يمكن لكشف جسدي أو فحص مخبري أن يؤكد وجود حالة نفسية بشكل قاطع لكن هناك علامات تحذيرية مبكرة يجب الانتباه إليها. من هذه العلامات الانسحاب من الأصدقاء والعائلة وتجنب الأنشطة الاجتماعية واضطراب عادات النوم والأكل سواء بالإفراط أو النقصان. كما أن الشعور المستمر باليأس وانعدام الطاقة وزيادة استهلاك المواد التي تغير المزاج قد تكون مؤشرات خطيرة. وتشمل الأعراض الأخرى الأفكار المتكررة التي لا يمكن التخلص منها وصعوبة إنجاز المهام اليومية والتفكير في إيذاء النفس أو الآخرين وسماع أصوات غير موجودة. ويتم التشخيص عبر عملية متكاملة تبدأ بفحص بدني لاستبعاد أي أسباب عضوية ثم تقييم نفسي شامل يسأل عن الأعراض وتأثيرها على حياة الشخص.
تتوفر استراتيجيات علاجية متنوعة لإدارة الحالات النفسية وغالبا ما يحقق الدمج بينها أفضل النتائج. يمثل العلاج النفسي نهجا أساسيا ويشمل أنواعا مثل العلاج السلوكي المعرفي والعلاج بالتعرض والعلاج السلوكي الجدلي حيث يساعد الأخصائيون الأفراد على فهم جذور مشكلاتهم وتطوير آليات للتأقلم. وفي حالات أخرى تكون الأدوية ضرورية لتحسين الأعراض وتسهيل التفاعل الاجتماعي حيث يصف الأطباء مضادات الاكتئاب أو مضادات الذهان التي تعمل على توازن كيميائيات الدماغ. وإلى جانب العلاج المتخصص تلعب الرعاية الذاتية وتعديل نمط الحياة دورا حاسما في التعافي ويشمل ذلك تبني نظام غذائي صحي وممارسة الرياضة والحصول على قسط كاف من النوم وتطبيق تقنيات الاسترخاء كالتأمل والتنفس العميق وبناء شبكة دعم قوية من الأصدقاء والعائلة.