
في شهادة تاريخية نادرة كشف الأمير تركي الفيصل الرئيس الأسبق للاستخبارات العامة السعودية عن تفاصيل اللقاء المباشر الذي جمعه بجهيمان العتيبي قائد المجموعة التي اقتحمت الحرم المكي عام 1979 وذلك عقب إلقاء القبض عليه مباشرة وانتهاء العملية الأمنية التي هزت العالم الإسلامي. هذه المواجهة الفريدة بين رجل الدولة والمسؤول عن أمنها وبين زعيم التمرد المسلح قدمت رؤى عميقة حول عقلية التطرف وأسبابه.
روى الأمير تركي الفيصل أنه توجه إلى المكان الذي كان يحتجز فيه جهيمان وبادره بسؤال مباشر وواضح حول الدوافع الحقيقية وراء ارتكاب هذا الجرم الشنيع واحتلال أقدس بقاع الأرض. كان الهدف من الحوار هو فهم العقلية التي تقف خلف هذا التخطيط وليس مجرد إجراء تحقيق روتيني. كان جهيمان في تلك اللحظات شخصا مهزوما جسديا لكنه ظل متشبثا بأفكاره ومعتقداته التي قادته إلى هذا المصير.
جاء رد جهيمان العتيبي على تساؤلات الأمير ليكشف عن عمق القناعات الأيديولوجية التي حركته هو وجماعته. تحدث جهيمان عن فكرة المهدي المنتظر الذي زعم أن صهره محمد القحطاني هو تجسيده وأن مهمتهم كانت مبايعته بين الركن والمقام وإعلان بداية عهد جديد من العدل يملأ الأرض بعد أن ملئت جورا وظلما. ولم يبد جهيمان أي تراجع عن هذه القناعة حتى بعد مقتل القحطاني وفشل حركته بشكل ذريع.
من منظور استخباراتي شكل هذا الحوار أهمية بالغة للأمير تركي الفيصل. فقد أتاح له فرصة نادرة للغوص في نفسية زعيم التنظيم وفهم المحركات الفكرية والعقائدية التي تدفع أشخاصا عاديين لارتكاب أعمال عنف متطرفة بهذا الحجم. كانت المعلومات المستقاة من هذا اللقاء المباشر أكثر قيمة من تقارير مطولة لأنها جاءت من مصدر التخطيط والتنفيذ مباشرة.
تعود وقائع الحادثة إلى فجر اليوم الأول من القرن الهجري الجديد عام 1400 الموافق للعشرين من نوفمبر 1979 عندما صدم العالم بقيام مجموعة مسلحة بقيادة جهيمان العتيبي باقتحام المسجد الحرام في مكة المكرمة واحتجاز آلاف المصلين كرهائن. استمر الحصار أسبوعين كاملين وانتهى بتدخل القوات السعودية وتحرير الحرم والقضاء على معظم المهاجمين والقبض على الباقين ومن بينهم جهيمان.
لقد كشفت هذه المواجهة التي وصفها الأمير تركي الفيصل كيف يمكن للأفكار المنحرفة أن تسيطر على العقول وتدفعها نحو تبرير العنف حتى في أقدس الأماكن. وأظهر الحوار أن جهيمان لم يكن مجرد مجرم عادي بل كان شخصا مؤمنا بقضية مشوهة حتى لحظة القبض عليه وهو ما مثل تحديا فكريا وأمنيا جديدا في تلك الفترة.