
يُذكر إبراهيم بن عبدالله العنقري كأحد رجالات الدولة الذين تركوا بصمة هادئة وعميقة في بنية الإدارة السعودية الحديثة حيث شكلت مسيرته المهنية الطويلة قصة رجل دولة يفضل الإنجاز على الظهور الإعلامي ويؤمن بأن خدمة الناس هي الهدف الأسمى للمناصب الحكومية.
نشأ العنقري الذي ولد في شقراء عام 1929 في ظروف صعبة صقلت شخصيته مبكرا فاليتم الذي عايشه علمه الانضباط والدقة في المواعيد والصرامة في الحقوق. انتقل بعدها إلى مكة المكرمة حيث نهل من منتدياتها الأدبية ما صقل لغته وبيانه ثم أكمل مسيرته التعليمية في القاهرة وتتلمذ على أيدي عمالقة الفكر العربي مثل طه حسين وأحمد أمين وزكي نجيب محمود مما منحه مزيجا فريدا من الفكر الإداري المنظم واللسان العربي الفصيح.
عندما عاد من مصر بشهادته الجامعية بدأت رحلته العملية في وزارة المعارف التي كانت في طور التأسيس وشهدت نموا متسارعا. عمل مساعدا ثم مديرا لمكتب الوزير الأمير فهد بن عبدالعزيز آنذاك وهناك أرسى طريقته الإدارية المميزة التي تقوم على ربط أي قرار بالميزانية المتاحة وأي برنامج بجدول زمني واضح وصياغة أي خطاب بلغة لا تحتمل اللبس. لقد حول الجهود الفردية المتناثرة في الوزارة إلى عمل مؤسسي متكامل يرتكز على التخطيط والمتابعة الدقيقة.
لاحقا انتقل إلى وزارة الخارجية ليتولى إدارة المراسم فلم يكن يرى البروتوكول مجرد إجراءات احتفالية بل لغة تعبر عن هيبة الدولة وتسهل عمل وفودها. نظم استقبالات الوفود الزائرة ومساراتها ووضع أسسا تضمن الكفاءة والاحترام. هذه التجربة أكسبته فهما عميقا للإيقاع الدولي وهو ما أفاده كثيرا في مناصبه اللاحقة كما مثل المملكة في اجتماعات دولية بالأمم المتحدة وعمل مستشارا في سفارة المملكة بواشنطن وواصل تعليمه هناك فدرس اللغة الإنجليزية في جامعة كولومبيا والعلاقات الإنسانية في جامعة فلوريدا.
في أوائل الثمانينيات الهجرية تولى منصب وكيل وزارة الداخلية في مرحلة حساسة من تاريخ البلاد. كانت الوزارة مسؤولة عن ملفات ضخمة تشمل شؤون المناطق والبلديات والحقوق. عمل العنقري بجهد استثنائي فكان يعقد اجتماعاته صباحا ويقوم بجولات ميدانية مساء وبقي بابه مفتوحا للجميع حتى ساعات متأخرة من الليل. تصدى للتنظيمات الفكرية المتطرفة بمنهجية تجمع بين الحزم الأمني والدراسة المعمقة لأسباب انتشارها الفكرية مؤمنا بأن الأمن خدمة عامة تدار بالأنظمة والبيانات لا بالعواطف وردود الفعل.
شكل تعيينه وزيرا للإعلام في رمضان عام 1390هـ نقطة تحول في مسار الإعلام السعودي. انطلق من مبدأ أن الدولة يجب أن تخاطب العالم والمواطنين بسياسة واضحة لا بردود أفعال متسرعة. أسس وكالة الأنباء السعودية لتكون جهازا إعلاميا مستقلا يروي قصة الوطن بلسان احترافي وأطلق بث إذاعة القرآن الكريم بشكل دائم. كما قاد تأسيس منظمة إذاعات الدول الإسلامية وعمل على تطوير التلفزيون تقنيا وبرامجيا وجعل من مواسم الحج نافذة تنقل للعالم صورة المملكة بمهنية عالية.
عندما تسلم حقيبة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية عام 1395هـ وضع سياسة وطنية ترتكز على التمكين لا الإعانة. عمل على توسعة نظام الضمان الاجتماعي وإعادة هيكلته وزيادة معاشاته كما استحدث برامج لرعاية الأسرة والطفولة. كان قراره الأبرز هو تطبيق نظام التأمينات الاجتماعية على العاملين السعوديين بالقطاع الخاص وهو ما أدى لولادة مؤسسة حديثة وقوية لإدارة المستقبل المهني للمواطنين. وشارك أيضا في تأسيس المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني لرفد سوق العمل بالكفاءات الوطنية المدربة.
مع بداية عهد الملك فهد تولى وزارة الشؤون البلدية والقروية في وقت كانت فيه المملكة تشهد طفرة عمرانية هائلة. أدخل العنقري العقلانية على التنمية الحضرية عبر نظام النطاق العمراني الذي وضع حدا للتوسع العشوائي للمدن ووجه النمو بناء على خطط مدروسة. شدد على معايير النظافة والبيئة وجودة البنية التحتية من طرق وجسور وشبكات مياه وكهرباء. كان معروفا بحزمه في المواعيد فمن يتأخر عن اجتماع معه يفقد مكانه على الطاولة. ولترسيخ مبدأ النزاهة كافأ مهندسا أبلغ عن محاولة رشوة بمكافأة مجزية لتكون رسالة بأن الاستقامة هي سياسة الوزارة.
بعد مسيرة حافلة في الوزارات اختاره الملك فهد مستشارا خاصا له ليعمل على ملفات استراتيجية بالغة الدقة. كرس سنوات في مفاوضات ترسيم الحدود مع اليمن وقطر وعمان والإمارات معتمدا على قراءة متأنية للتاريخ والخرائط وصياغة دقيقة للكلمات بما يحفظ سيادة المملكة ويؤسس لعلاقات حسن جوار مستقرة. كما كان عضوا رئيسيا في اللجنة العليا التي صاغت أنظمة الحكم الثلاثة المحورية وهي النظام الأساسي للحكم ونظام مجلس الشورى ونظام المناطق فكان رجل الإدارة الذي يحول المبادئ العليا إلى نصوص قانونية عملية وواضحة.
كان إبراهيم العنقري رجلا يكره الفوضى ولا يسعى للأضواء يقدر قيمة الوقت ويحتكم للوثيقة والمنطق. كان يؤمن بأن الكفاءة تبنى بالتدريب المستمر لذا شجع على إنشاء المعاهد وابتعاث الموظفين. اتسمت شخصيته بالرحمة في تطبيق القانون فكان صارما في حق الدولة لكنه يفتح بابه دائما لمن لديه مظلمة.
في يناير من عام 2008 رحل إبراهيم العنقري بهدوء في جنيف كما عاش حياته العملية. لكن إرثه لم يكن في المناصب التي تقلدها بل في المؤسسات التي بناها والأنظمة التي أرسى دعائمها والمنهجية الإدارية التي تركها خلفه لتصبح دليلا على أن الخدمة العامة هي مهنة وفن وعمل دؤوب.